اللغة العربية بين الغياب والهوية: تحدّي الأجيال السورية في المهجر
حين نرى أبناءنا يتقنون الألمانية بطلاقة، بينما تتراجع العربية في حياتهم حتى تكاد تصبح لغة غريبة، يرنّ ناقوس الخطر في وجداننا. فالقضية لا تتعلق بمجرد تفضيل لغوي، بل تمس جوهر الهوية والانتماء. اللغة الأم هي ذاكرة الجماعة، وجسر الحضارة، وأداة التواصل بين الأجيال، ومع تآكلها يتهدد خطر فقدان جيل كامل لا يعرف جذوره ولا تاريخ وطنه.
فالطفل الذي يُحرم من لغته الأم يفقد جزءًا من ذاته، ويضعف ارتباطه بموروثه الثقافي، وقد يكبر وهو يشعر بالغربة عن أصله، حتى وهو يعيش داخل أسرته.
مظاهر ظاهرة مقلقة
من خلال الاحتكاك بعدد من العائلات السورية المقيمة في أوروبا، يتكرر مشهد مؤلم: أطفال يجيبون آباءهم بالألمانية، يطلبون ترجمة الكلمات العربية، ويعجزون عن تسمية أبسط الأشياء بلغتهم الأم. وفي كثير من الأحيان، يلجأ الأهل بدافع التسهيل أو حسن النية إلى استخدام الألمانية في المنزل، ظنًا منهم أن ذلك يقرّب المسافات، بينما يسهم عمليًا في إضعاف العربية وتحويلها إلى لغة هامشية في وعي الأطفال.
أسباب التحدّي اللغوي
تفرض البيئة الأوروبية لغتها بقوة عبر المدرسة ووسائل الإعلام والأصدقاء، فتغدو الألمانية اللغة المهيمنة في حياة الطفل اليومية. ويُفاقم المشكلة غياب برامج تعليمية عربية موجّهة للأطفال، سواء على مستوى المدارس أو الأندية الثقافية. كما يسهم تراجع استخدام العربية داخل البيت في إضعاف حضورها، لتصبح لغة غير حيّة لا ترتبط بالاستخدام اليومي.
انعكاسات فقدان اللغة على الهوية
اللغة ليست مجموعة مفردات فحسب، بل هي تاريخ وقيم وعادات ونمط تفكير. وعندما يفقد الطفل لغته الأم، يخسر رابطًا أساسيًا مع ثقافته، ويصبح أقل إحساسًا بالانتماء إلى جذوره. وعلى المدى البعيد، قد ينشأ جيل يشعر بالانفصال عن هويته الأصلية، حتى وهو يعيش بين أهله.
خطوات عملية للحفاظ على العربية
يتطلب الحفاظ على اللغة العربية جهدًا واعيًا ومستمرا يبدأ من البيت. فتعليم العربية يوميًا عبر القراءة والكتابة والمحادثة يجعلها جزءًا طبيعيًا من الحياة. كما أن استبدال أفلام الكرتون الأجنبية بمحتوى عربي يساعد الأطفال على اكتساب مفردات جديدة بطريقة ممتعة. ويُعد تعليم القرآن الكريم، مع قواعد القراءة والتجويد، وسيلة فعالة لتعزيز اللغة وربطها بنصوصها الأصيلة. كذلك يسهم إحياء الموروث الشعبي، ورواية القصص، وحفظ الشعر العربي في توسيع المخزون اللغوي وتقوية النطق. ويبقى البيت هو الحصن الأول، حين يلتزم الأهل باستخدام العربية وتشجيع أبنائهم على التحدث بها في مختلف المواقف اليومية.
إن الحفاظ على اللغة العربية هو حفاظ على الهوية، وصون للذاكرة، وضمان لعدم انقطاع الجذور. إنها مسؤولية تربوية وأخلاقية مشتركة، تتطلب وعيًا جماعيًا وجهدًا متواصلاً، حتى يبقى الانتماء حيًا في قلوب الأجيال القادمة، مهما ابتعدت بهم الجغرافيا.





